بقلم : إلياذة القلم هو جسد هزيل لكن صلب ... رأس صغير لا يشبه حجم ما داخله وعينان سوداوتان بلون حياته التي إستقبلته بحليب القسوة ولقدره لم...
بقلم : إلياذة القلم
هو جسد هزيل لكن صلب ... رأس صغير لا يشبه حجم ماداخله وعينان سوداوتان بلون حياته التي إستقبلته
بحليب القسوة ولقدره لم يُفطم بعد .
وقف ليتناول فطوره الصباحي ، المكون من توبيخ أمه المشغولة عنه دائما بآخر تراه يستحق اهتمامها ...وصراخ أبيه المليء بالتهديدات المتوعدة ونظراته الجليدية الحانقة .
وهذا اليوم تميز بحلوى بعد الفطور ، فكانت صفعة قاسية قادرة على تمزيق طفولته لأشلاء للأبد.
لكنه إستقبلها بشموخ أسد وصلابة جبال ، بينما سمع حروف أبيه بقوة تلفظ أنفاسها الأخيرة ؛
" لا أعلم مما خُلقت أيها البارد اللعين ،
ألا تمل من جلب المشاكل لنا ولنفسك!
أقسم أنه لولا ما سيقوله الناس لكنت الآن تنام بالشارع
مع الكلاب الضالة "
لم يرد...بل إكتفى بابتلاع قليل من اللامبالاة
وشرب الكثير من الصمت،
وبهدوء حمل حقيبته ثم سار نحو مدرسته،
هذا المكان الذي يتحول لساحة حرب حالما يصل إليه.
دخل بقدمين ثقيلتين تكادا تنغرسا بالأرض بكل خطوة
إرتدى قناع العنف ليدافع به عن نفسه ضد أي هجوم
سواء كان من أجله أو ضده،
فهو لا يسمح لشعور الشفقة أن يتسلل حياته حتى
لو نبع من داخله هو.!
بالصف طلبت المعلمة من تلاميذها ذوي العاشرة أن يكتبوا
أجمل شيء في حياتهم داخل ورقة دون كتابة أسمائهم،
ثم جمعت كتاباتهم وقامت بَعدّها.
وعندما إنتهت اكتشفت أن هناك ورقة مفقودة لم تُكتَب
ودون سؤال أدركت وحدها التلميذ الذي إمتنع عن الكتابة.
أصابتها غصة لكن شعور اليأس كان كافيا لمنعها من السؤال، فاكتفت بقراءة ما كتبه الصغار أمامهم بصوت عالٍ .
ورقة مكتوب داخلها " أبي وأمي "
أخري " لين صديقتي "
أخرى " قطتي "
أخرى " الشوكولاتة "
وأخرى " ألعابي "
وأخرى وأخرى وأخرى تحوي دنيا الصغار
لكن كانت تثير إشمئزازه ونظراته القاتمة
إشتعلت الهتافات الحماسية والإبتسامات بين الصغار
حتى صعقتهم جميعاً ؛ ورقة حملت حروفا أخرست حماسهم
وعلت معها شهقات الإستنكار الصادمة.
كانت ورقة كُتب فيها
" أجمل شيء هو ابتسامة آدم ، زميلنا بالصف"
حينها تبادل الجميع النظرات المذهولة الصادمة
و حدقوا ب آدم المتجمد على مقعده، لا تحمل ملامحه
إنفعالا واحداً يجيب به نظراتهم الفضولية.
فقط شبك أنامله ببعضها بقوة ليخفي إنفعالاته
بينما تجمد جسده كأنفاسه المعلقة برئتيه، أما عيناه
فقد توسلها ألا تمطر حتى لا تذوب أقنعته أمامهم؛
وهي بالفعل إستجابت له.
إبتلعت المعلمة ريقها ثم أنهت قراءة الأوراق الباقية بعجالة
وأعلنت إنتهاء الحصة واليوم الدراسي .
غادر الصغير المدرسة لكن بغير الحال،
إختار الصمت الشارد الثقيل رفيقاً له أثناء عودته،
عقله وقلبه إتفقا عليه، ما مر عليه بهذا اليوم منذ
إستيقاظه لهذه اللحظة فوق تحمله.
قلبه العجوز صمد أمام صفعة شقت روحه لنصفين
لكن تلك الرسالة التي سمعها كان تأثيرها عليه أضعاف.
حروف بسيطة هزمت لامبالاته للمرة الأولى
وأثارت فوضى التساؤلات داخل عقله.!
وعند عودته قاطع سيره صبيان أقرانه بالعمر
رأى بأعينهما رغبة بإفتعال شجار معه، لكنه لم يكن
بحال يروق له ما جاءا عازمين عليه.
فتحامل على طباعه النارية وقرر تجاهل إستفزازهما له
لكنهما أبا ذلك وبشدة بل وأشعلا فتيل غضبه الخامد
حين قال أحدهما
" رد علينا أيها الغبي، أم أنك اخترتَ أخيرا أن تصبح
جبانا مثل أبيك الذي يخشى ظله!!"
أظلمت عيناه ببريق مخيف ...تبدلت حدقتاه لجمرتين
مشتعلتين وإنتفضت أنفاسه ثائرة تعلن الحرب .
ولم يشعر سوى بقبضتيه قد تحولتا لمطرقتين تحطمان
كل ما تصطدمان به بينما يصرخ بغضب لاهث
" أبي ليس جبانا أيها الأوغاد، أبي ليس ليس جبانا،
أبي يحب السلام، لكنكم لا تستحقون سوى الموت "
لم تتوقف حربه رغم تمزيق قميصه وسيل خيط دماء
رفيع من شفتيه
تبدل لمجنون لا يرى أمامه بينما تفجر منه جحيم تسببا
فيه وإستحقاه مما دفع أحدهما للهروب.
وبأنفاس لاهثة وعقل أغلق نوافذ إدراكه أسقط الآخر
أرضا بعدما خارت قواه،
ثم أمسك آدم بقطعة زجاجية حادة ..ورفع يده عاليا
ليضربه بها لكن جاءه صوت من خلفه صارخا بقوة
" آدم ... لا تفعلها أرجوك "
فعلقت يداه بالهواء واستدار لمصدر الصوت
فكان " زين " زميله بالصف.
نظر له آدم بعينين متحجرتين تكادا تنفجران من قوة
إحمرارهما، لكن بادله زين بنظرة مترجية
وتابع بصوت مبحوح أقل إنفعالا
" من أجل أبيك لا تفعلها يا آدم "
تجمدت يده كتلك الدمعة التي أطبق جفنيه بقوة
ليمنعها من الظهور، فقط إكتفى بالشعور بحرقتها.
وبعد برهة إستقام بجسده ثم نهض واقفا ؛ يبحث عن حقيبته
بخطوات غير متزنة، بينما إقترب زين وساعد الولد الآخر
في النهوض ليركض بعدها مثلما فعل الآخر قبله .
أخذ آدم يعيد ترتيب ملابسه وقال بصوت صلب
_ أنت صاحب رسالة اليوم ، أليس كذلك؟
أجابه زين بشبه ابتسامة
_ كيف عرفت أنها مني؟
رد آدم بنبرة هجومية
_ الأمر لا يحتاج لكثير من الذكاء لأعلم أنه أنت،
أنت الوحيد الذي يحسن معاملتي منذ جئت المدرسة
هذا العام.
( وبنبرة مختنقة أضاف )
_ لماذا كتبتها ؟
_ لأنها بالفعل أجمل شيء رأيته.
قالها زين بعفوية زادت قوة تأثيرها على قلب آدم
لكن آدم تابع ساخرا بنبرته الحادة
_ لماذا ؟
ألا تملك شيئا جميلا بحياتك يستحق أن تكتبه
غير ابتسامتي!!
ابتسم زين وقال بصوت هادئ
_ عندي الكثير من الأشياء الجميلة لكن إبتسامتك
أجمل لأنها نادرة،
( وبنبرة صادقة عميقة أضاف )
_ أتعلم...أني رأيتها مرة واحدة
حين إستطعتَ الإمساك بالقط الذي غطوا رأسه
بكيس أسود ووضعوا الكثير من الحبال حول رقبته.
راقبتك كيف أمسكت بالقط ثم حاولت نزع الحبال بهدوء وأطلقته.
و حينها رأيت على وجهك ابتسامة صافية وخالية
من العنف الذي تتعامل به مع الجميع.
حينها أمطرت عينا آدم دموعاً لم يستطع السيطرة عليها
أكثر بينما قال مندفعا بصوت مبحوح مرتبك عاجز عن التعبير
_ وأنا أكرهك ، أتسمعني ... أنا أكرهك.
إتسعت عينا زين بذهول وقال مستنكراً
_ أنا يا آدم ؟!!
لماذا .... أنا أحبك والله.
أجاب آدم بنبرة جليدية متحجرة
_ نعم أكرهك ... لأنك آذيتني اليوم.
جعلتني أشعر بما لا أريده أبدا،
إبحث عن غيري، أنا لا أريد أن يحبني أحد وخاصة أنت
فإبتعد عني حتى لا تصبح مثلي يوماً وتكره الجميع .
قال جملته ثم حمل حقيبته وتجاوز زين المصعوق
من كلامه القاسي، وأكمل طريقه الذي بدأه،
لكنه عاد حاملا شيئا جديداً داخله قد إمتزج بروحه،
ربما لم يره لكن شعر به.
وها قد مرت سنوات كثيرة على تلك الذكرى التي
إستطاعت فعل ما عجز عنه الكثير،
الذكرى التي هدمت عمرا من الألم و رممت غيره بآن واحد.
اليوم يجلس آدم على كرسي مكتبه بالجامعة يريح
جسده المتشنج قليلا بعدما ألقى محاضرة على طلابه
إستهلكت طاقته كلها.
جاءه إتصال هاتفي أجابه بصوت منهك
_ نعم .... ماذا تريد ؟!
( رد الطرف الآخر بإستهجان ساخر)
_ نعم وماذا أريد!!!
أصبحتَ أستاذا جامعياً ومازلت فظا خشنا
والله إني لأستحق أن يُنحَت لي تمثال لأنني مازلت
صديقك يا رجل ، إني لأحسد ملابسك أنها تتحملك.
(ارتسمت ابتسامة هادئة على وجه آدم ،
بينما قال بنبرة خفيضة جادة )
_ وما الذي يجبرك على تحملي، لِم لا تريح نفسك مني ؟!
_ لأنني أحبك يا آدم.!
قالها زين بعفويته النقية الصادقة، فجعلت أدم يغمض
عينيه لسماعها لتمنحه سكينة يحتاجها ولا يشعر
بها سوى معه وحده.
وبعدما دار بينهما حديث طويل،
أخذ آدم نفسا عميقاً ثم قال بنبرة خافتة
_ زين ...
هل تتذكر حين سألتنا المعلمة عن أجمل شيء بحياتنا؟
أجاب زين بصوت خفيض
_ نعم أتذكر ، وهل هذا موقف يمكن نسيانه!!
قال آدم بصوت مختنق متحشرج
_ حينها لم أكتب مثلكم لأنني لم أملك الإجابة،
لكن اليوم فقط أدركتها وأستطيع إخبارك أنت بها .
صمت زين فتابع آدم بنبرة رخيمة عميقة صادقة متأثرة
بمشاعره التي قرر الإفصاح عنها للمرة الأولى
_ أجمل شيء في حياتي هو أنت يا صديقي.!
" سلام على العفوية النقية الصادقة المُربِكة،
وسلام على قلوبنا التي إفتقدت هذا الشعور الغير مألوف."
